محروم
08-24-2022, 07:09 PM
اتَّصف عهد المنصور بكثرة الثورات والاضطرابات، وواجه المنصور كلَّ الثورات التي ابتُلِيَت بها الأمة بصرامة بالغة، ولم تؤثِّر معظمها فيه ولا في دولته.
الموقف لأبي جعفر المنصور
الخليفة العباسي الثاني بعد أخيه أبي العباس السفاح
وأنا أحقِّق فائدة من موقف له على الرغم من عدم موافقتي على منهجه الأخلاقي والشرعي في الحياة (تعلَّمت أن أستفيد من كل المواقف، ومن شتى الناس، حتى لو كنت أخالفهم في منهجهم وأسلوب حياتهم)
تولى أبو جعفر المنصور الخلافة العباسية من عام 136 هجرية إلى عام 158 هجرية
22 سنة في غاية الأهمية، ويعتبر هو المؤسِّس الحقيقي للدولة العباسية
قيام الدولة العباسية غير شرعي:
في الواقع أنا لا أعتبر قيام العباسيين بالانقلاب على الأمويين قيامًا شرعيًّا، بل هو انقلاب ثوري غير مقبول في الشريعة، وقاموا به على خلفاء مبايعين، وخرقوا أوضاعًا مستقرَّة، ولم يفعلوا ذلك حمية لدين، ولا ارتكانًا لأصول شرعية، إنما هو الطمع في الملك، والرغبة في السلطة.
المنصور من الناحية السياسية رجل دولة عبقري:
اتَّصف عهد المنصور بكثرة الثورات والاضطرابات، وواجه المنصور كلَّ الثورات التي ابتُلِيَت بها الأمة بصرامة بالغة، ولم تؤثِّر معظمها فيه ولا في دولته. أيضًا على المستوى الخارجي لم يستطع أعداء الدولة من الدول المجاورة من استغلال ظرف قيام الدولة في إحداث أضرار بها. ليس هذا فقط، إنما وضع المنصور أسس الإدارة والنظام في دولته، ولم تُلْهِه هذه الاضطرابات والأعداء عن تنظيم شئون البلاد، ووضع القواعد الأساسية التي سار عليها أتباعه عشرات السنين، وكان المنصور رجلَ دولةٍ بحقٍّ. يُذكر للمنصور أنه كان بعيدًا تمامًا عن اللهو والترف، وكان مقتصدًا للغاية في النفقات، وترك خزينة الدولة عامرة بالمال، وكان لا يُسرف في الهبات والعطايا والجوائز، غير أنه كان جبَّارًا من الجبابرة، لا يتردَّد في إقصاء منافسيه بالقتل أو السجن الدائم مهما كانت مكانتهم، أو علاقتهم به، أو تاريخهم، وهذه طبيعةٌ كانت في معظم كبار رجال الدولة العباسية، حتى مَنْ اشتُهر بالصلاح فيهم!
ولقد أحصيتُ من التمرُّدات والثورات على أبي جعفر المنصور أربعة عشر، وهي في الواقع أكثر من ذلك، ونجح في قمع معظمها، وفشل في القليل، وأهمُّ هذا القليل هو استقلال الأندلس
انفصال الأندلس، وتأسيس الإمارة الأموية بها: (138 هجرية)
هذا واحد من أهم الأحداث التي استقبل بها أبو جعفر المنصور عهده؛ فبعد أقل من سنتين من ولاية أبي جعفر المنصور، تمكَّن أحد الأمويين القلَّة الذين نجوا من المذبحة العباسية، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، الشهير بعبد الرحمن الداخل، في عام 138 هجرية، من عبور إفريقية إلى الأندلس بعد اختباء ست سنوات، وتمكَّن بأعجوبة من تكوين تحالفات سياسية مستفيدًا من الصراعات التي كانت دائرة آنذاك بين القيسية واليمنية، واستطاع الاستقلال بالأندلس، في واحدة من أغرب الحوادث في التاريخ الإنساني؛ حيث تمكَّن شابٌّ وحيدٌ بلا عائلة مطارَدٌ من دولة عملاقة من تأسيس دولة قوية ستبقى في الأندلس لأكثر من ثلاثة قرون!
لم يحاول المنصور استرداد الأندلس إلا مرة واحدة عن طريق التواصل مع العلاء بن مغيث اليحصبي أحد الثائرين على عبد الرحمن الداخل، ليحاربه لصالح الدولة العباسية على أن يكون واليًا لها بعد إقصاء الداخل. أرسل المنصور رسالة تأييد للعلاء ومعها لواء الدولة العباسية، وذلك في عام 146 هجرية. انتهى الأمر بمعركة حامية تمكَّن فيها عبد الرحمن الداخل من سحق حليف العباسيين، واحتزَّ رأسه وأرسلها مع رسالة المنصور ولوائه لتُوضَع أمام خيمة المنصور أثناء الحجِّ! فزع المنصور عند رؤية رأس العلاء، وقال: "عَرَّضْنَا هذا البائس -يعني العلاء- للحَتْفِ، ما في هذا الشيطان مطمع، فالحمد لله الذي صيَّر هذا البحر بيننا وبينه"[1]!
ومن اللطيف أن نعرف أن المنصور كقائد عسكري محترف، وكرجل دولة من الطراز الأول، أدرك إمكانات عبد الرحمن الداخل ومواهبه، ولذا كان -على رغم العداء معه وقبيلته- لا يخفي إعجابه به، وثناءه عليه، وقد قال في وصفه: "ذَاكَ صَقْرُ قُرَيْشٍ، دَخَلَ المَغْرِبَ وَقَدْ قُتِلَ قَوْمُهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَضرِبُ العَدْنَانِيَّةَ بِالقَحْطَانِيَّةِ، ويُلَبِّس القَحْطَانِيَّةَ بِالعَدْنَانِيَّةِ، حَتَّى مَلَكَ"[2]!
لن يحاول العباسيون بعد ذلك ضمَّ الأندلس إلا مرة واحدة أخرى في عهد المهدي بن المنصور، وستكون هي الأخرى فاشلة، وسيقنع كل طرفٍ منها بمسالمة الآخر.
صقر قريش:
كان المنصورُ يثني على عبد الرحمن، قال يومًا لأصحابه: مَن صقرُ قريشٍ الذي قهر الأعداءَ وساس الملكَ وسكَّن الزلازل؟ فقالوا: أنت، فقال: ما قلتم شيئًا، ولكن ذاك الذي قطع الفيافيَ والقفار، والجزائرَ والبحار، وأَوغل في بلاد المغرب، وقد قُتل قومُه وزال ملكُهم، فدخل بلدًا أعجميًّا مُفرَدًا، فمصَّر الأمصار وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، ولم يزل يضرب العدنانيةَ بالقحطانية، والقحطانيةَ بالعدنانية، والمضريةَ باليمانية، حتى أقام مُلكًا داثرًا (أي مندثرًا ممحيًّا) بعد انقطاعه، بحسن تدبيرِه وشدَّة شكيمته، ذاك عبدُ الرحمن بنُ معاوية([3]).
الرائع في موقف أبي جعفر أنه علم متى يتوقَّف، لأن الإكمال في أمر يغلب عليه الفشل يورث الإحباط بالإضافة إلى الخسائر المادية الكبرى
هذا سلوك نبوي: موقف الرسول ﷺ عندما عاد من الطائف:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطَّائِفَ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، قَالَ: «إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: نَذْهَبُ وَلاَ نَفْتَحُهُ، فَقَالَ: «اغْدُوا عَلَى القِتَالِ». فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ». فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ([4]).
وعلى العكس من ذلك:
موقف نابليون في روسيا عندما لم يتوقف وأفنى جيشه
في نهاية المطاف دفع الغرورُ نابليون إلى اقتحام روسيا بجيشه العملاق المكوَّن من 650 ألف مقاتل في عام 1812، ومع أنه حقَّق النصر، ودخل موسكو، إلا أنه فَقَد معظم جيشه بسبب الحرب والبرد. أقل تقديرٍ لعدد القتلى والمفقودين في جيش نابليون يتجاوز الأربعمائة ألف جندي! كانت هذه نقطة تحوُّلٍ ولم يستطع الجيش الفرنسي أن يستردَّ عافيته بعد ذلك.
التطبيقات العملية:
لا تكمل إن شعرت بالفشل
تعامل بواقعية مع المشاريع التي كنت تضع فيها أملًا كبيرًا
واعلم أن الخسارة المحدودة أفضل كثيرًا من الخسارة المطلقة
لا تيأس وتحبط، ولكن أكمل العمل في حدود المتاح
هذا يحفظ لك قلبك!
(من أكبر أسباب الإحباط الطموح الزائد عن الحدِّ، فليس هذا من حسن التفاؤل، إنما هو من ضيق الأفق، وقلَّة الفهم، وعدم إدراك سنن الكون)
لم يحقِّق الرسول صلى الله عليه وسلم كلَّ أمانيه في الدنيا:
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
· كان يتمنى أن لو رفع العذاب عن سمية وياسر والدي عمار بن ياسر، ولكنه اكتفى بقوله: «اصْبِرُوا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ».
· وكان يتمنى أن لو شرح الله قلب أبي طالب للإسلام، ولكنه مات كافرًا
· وكان يتمنى أن لو حقَّق النصر على الكفَّار في أحد، لكن حدثت المصيبة
· وكان يتمنى أن لو نجى الله أصحابه يوم بئر معونة، ولكن قُتِل منهم سبعون.
· وكان يتمنى أن لو بنى الكعبة على هيئتها الأولى التي بناها إبراهيم، لكنه لم يقدر.
· وكان يتمنى أن لو شفى الله غليله من مسيلمة الكذاب، ولكنه مات قبل أن يحدث شيء لمسيلمة
هكذا لا يرتفع الرسول صلى الله عليه وسلم بطموحاته أكثر من سنن الكون، مع كونه مؤيَّدًا بالمعجزات، ولذلك لم يُحْبَط أبدًا.
[1] نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس (3/ 36)
[2] تاريخ دمشق لابن عساكر (35/ 449)
([3]) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (12/ 438)
([4]) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4070)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الطائف (1778).
الموقف لأبي جعفر المنصور
الخليفة العباسي الثاني بعد أخيه أبي العباس السفاح
وأنا أحقِّق فائدة من موقف له على الرغم من عدم موافقتي على منهجه الأخلاقي والشرعي في الحياة (تعلَّمت أن أستفيد من كل المواقف، ومن شتى الناس، حتى لو كنت أخالفهم في منهجهم وأسلوب حياتهم)
تولى أبو جعفر المنصور الخلافة العباسية من عام 136 هجرية إلى عام 158 هجرية
22 سنة في غاية الأهمية، ويعتبر هو المؤسِّس الحقيقي للدولة العباسية
قيام الدولة العباسية غير شرعي:
في الواقع أنا لا أعتبر قيام العباسيين بالانقلاب على الأمويين قيامًا شرعيًّا، بل هو انقلاب ثوري غير مقبول في الشريعة، وقاموا به على خلفاء مبايعين، وخرقوا أوضاعًا مستقرَّة، ولم يفعلوا ذلك حمية لدين، ولا ارتكانًا لأصول شرعية، إنما هو الطمع في الملك، والرغبة في السلطة.
المنصور من الناحية السياسية رجل دولة عبقري:
اتَّصف عهد المنصور بكثرة الثورات والاضطرابات، وواجه المنصور كلَّ الثورات التي ابتُلِيَت بها الأمة بصرامة بالغة، ولم تؤثِّر معظمها فيه ولا في دولته. أيضًا على المستوى الخارجي لم يستطع أعداء الدولة من الدول المجاورة من استغلال ظرف قيام الدولة في إحداث أضرار بها. ليس هذا فقط، إنما وضع المنصور أسس الإدارة والنظام في دولته، ولم تُلْهِه هذه الاضطرابات والأعداء عن تنظيم شئون البلاد، ووضع القواعد الأساسية التي سار عليها أتباعه عشرات السنين، وكان المنصور رجلَ دولةٍ بحقٍّ. يُذكر للمنصور أنه كان بعيدًا تمامًا عن اللهو والترف، وكان مقتصدًا للغاية في النفقات، وترك خزينة الدولة عامرة بالمال، وكان لا يُسرف في الهبات والعطايا والجوائز، غير أنه كان جبَّارًا من الجبابرة، لا يتردَّد في إقصاء منافسيه بالقتل أو السجن الدائم مهما كانت مكانتهم، أو علاقتهم به، أو تاريخهم، وهذه طبيعةٌ كانت في معظم كبار رجال الدولة العباسية، حتى مَنْ اشتُهر بالصلاح فيهم!
ولقد أحصيتُ من التمرُّدات والثورات على أبي جعفر المنصور أربعة عشر، وهي في الواقع أكثر من ذلك، ونجح في قمع معظمها، وفشل في القليل، وأهمُّ هذا القليل هو استقلال الأندلس
انفصال الأندلس، وتأسيس الإمارة الأموية بها: (138 هجرية)
هذا واحد من أهم الأحداث التي استقبل بها أبو جعفر المنصور عهده؛ فبعد أقل من سنتين من ولاية أبي جعفر المنصور، تمكَّن أحد الأمويين القلَّة الذين نجوا من المذبحة العباسية، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، الشهير بعبد الرحمن الداخل، في عام 138 هجرية، من عبور إفريقية إلى الأندلس بعد اختباء ست سنوات، وتمكَّن بأعجوبة من تكوين تحالفات سياسية مستفيدًا من الصراعات التي كانت دائرة آنذاك بين القيسية واليمنية، واستطاع الاستقلال بالأندلس، في واحدة من أغرب الحوادث في التاريخ الإنساني؛ حيث تمكَّن شابٌّ وحيدٌ بلا عائلة مطارَدٌ من دولة عملاقة من تأسيس دولة قوية ستبقى في الأندلس لأكثر من ثلاثة قرون!
لم يحاول المنصور استرداد الأندلس إلا مرة واحدة عن طريق التواصل مع العلاء بن مغيث اليحصبي أحد الثائرين على عبد الرحمن الداخل، ليحاربه لصالح الدولة العباسية على أن يكون واليًا لها بعد إقصاء الداخل. أرسل المنصور رسالة تأييد للعلاء ومعها لواء الدولة العباسية، وذلك في عام 146 هجرية. انتهى الأمر بمعركة حامية تمكَّن فيها عبد الرحمن الداخل من سحق حليف العباسيين، واحتزَّ رأسه وأرسلها مع رسالة المنصور ولوائه لتُوضَع أمام خيمة المنصور أثناء الحجِّ! فزع المنصور عند رؤية رأس العلاء، وقال: "عَرَّضْنَا هذا البائس -يعني العلاء- للحَتْفِ، ما في هذا الشيطان مطمع، فالحمد لله الذي صيَّر هذا البحر بيننا وبينه"[1]!
ومن اللطيف أن نعرف أن المنصور كقائد عسكري محترف، وكرجل دولة من الطراز الأول، أدرك إمكانات عبد الرحمن الداخل ومواهبه، ولذا كان -على رغم العداء معه وقبيلته- لا يخفي إعجابه به، وثناءه عليه، وقد قال في وصفه: "ذَاكَ صَقْرُ قُرَيْشٍ، دَخَلَ المَغْرِبَ وَقَدْ قُتِلَ قَوْمُهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَضرِبُ العَدْنَانِيَّةَ بِالقَحْطَانِيَّةِ، ويُلَبِّس القَحْطَانِيَّةَ بِالعَدْنَانِيَّةِ، حَتَّى مَلَكَ"[2]!
لن يحاول العباسيون بعد ذلك ضمَّ الأندلس إلا مرة واحدة أخرى في عهد المهدي بن المنصور، وستكون هي الأخرى فاشلة، وسيقنع كل طرفٍ منها بمسالمة الآخر.
صقر قريش:
كان المنصورُ يثني على عبد الرحمن، قال يومًا لأصحابه: مَن صقرُ قريشٍ الذي قهر الأعداءَ وساس الملكَ وسكَّن الزلازل؟ فقالوا: أنت، فقال: ما قلتم شيئًا، ولكن ذاك الذي قطع الفيافيَ والقفار، والجزائرَ والبحار، وأَوغل في بلاد المغرب، وقد قُتل قومُه وزال ملكُهم، فدخل بلدًا أعجميًّا مُفرَدًا، فمصَّر الأمصار وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، ولم يزل يضرب العدنانيةَ بالقحطانية، والقحطانيةَ بالعدنانية، والمضريةَ باليمانية، حتى أقام مُلكًا داثرًا (أي مندثرًا ممحيًّا) بعد انقطاعه، بحسن تدبيرِه وشدَّة شكيمته، ذاك عبدُ الرحمن بنُ معاوية([3]).
الرائع في موقف أبي جعفر أنه علم متى يتوقَّف، لأن الإكمال في أمر يغلب عليه الفشل يورث الإحباط بالإضافة إلى الخسائر المادية الكبرى
هذا سلوك نبوي: موقف الرسول ﷺ عندما عاد من الطائف:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطَّائِفَ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، قَالَ: «إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: نَذْهَبُ وَلاَ نَفْتَحُهُ، فَقَالَ: «اغْدُوا عَلَى القِتَالِ». فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ». فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ([4]).
وعلى العكس من ذلك:
موقف نابليون في روسيا عندما لم يتوقف وأفنى جيشه
في نهاية المطاف دفع الغرورُ نابليون إلى اقتحام روسيا بجيشه العملاق المكوَّن من 650 ألف مقاتل في عام 1812، ومع أنه حقَّق النصر، ودخل موسكو، إلا أنه فَقَد معظم جيشه بسبب الحرب والبرد. أقل تقديرٍ لعدد القتلى والمفقودين في جيش نابليون يتجاوز الأربعمائة ألف جندي! كانت هذه نقطة تحوُّلٍ ولم يستطع الجيش الفرنسي أن يستردَّ عافيته بعد ذلك.
التطبيقات العملية:
لا تكمل إن شعرت بالفشل
تعامل بواقعية مع المشاريع التي كنت تضع فيها أملًا كبيرًا
واعلم أن الخسارة المحدودة أفضل كثيرًا من الخسارة المطلقة
لا تيأس وتحبط، ولكن أكمل العمل في حدود المتاح
هذا يحفظ لك قلبك!
(من أكبر أسباب الإحباط الطموح الزائد عن الحدِّ، فليس هذا من حسن التفاؤل، إنما هو من ضيق الأفق، وقلَّة الفهم، وعدم إدراك سنن الكون)
لم يحقِّق الرسول صلى الله عليه وسلم كلَّ أمانيه في الدنيا:
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
· كان يتمنى أن لو رفع العذاب عن سمية وياسر والدي عمار بن ياسر، ولكنه اكتفى بقوله: «اصْبِرُوا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ».
· وكان يتمنى أن لو شرح الله قلب أبي طالب للإسلام، ولكنه مات كافرًا
· وكان يتمنى أن لو حقَّق النصر على الكفَّار في أحد، لكن حدثت المصيبة
· وكان يتمنى أن لو نجى الله أصحابه يوم بئر معونة، ولكن قُتِل منهم سبعون.
· وكان يتمنى أن لو بنى الكعبة على هيئتها الأولى التي بناها إبراهيم، لكنه لم يقدر.
· وكان يتمنى أن لو شفى الله غليله من مسيلمة الكذاب، ولكنه مات قبل أن يحدث شيء لمسيلمة
هكذا لا يرتفع الرسول صلى الله عليه وسلم بطموحاته أكثر من سنن الكون، مع كونه مؤيَّدًا بالمعجزات، ولذلك لم يُحْبَط أبدًا.
[1] نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس (3/ 36)
[2] تاريخ دمشق لابن عساكر (35/ 449)
([3]) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (12/ 438)
([4]) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4070)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الطائف (1778).